كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبعد أن أمر الحق سبحانه باجتناب الرجْس في عبادة الأصنام قال: {واجتنبوا قَوْلَ الزور} [الحج: 30] فقرن عبادة الأوثان بقول الزُّور، كأنهما في الإثم سواء؛ لذلك النبي صلى الله عليه وسلم سلَّم يوما من صلاة الصبح، ثم وقف وقال: «ألا وإن شهادة زور جعلها الله بعد الأوثان».
لماذا؟ لأن في شهادة الزور جماع لكل حيثيات الظلم، فساعةَ يقول: ليس للكون إله، فهذه شهادة زور، وقائلها شاهد زور، كذلك حين يظلم أو يُغير في الحقيقة، أو يذمُّ الآخرين، كلها داخلة تحت شهادة الزور.
ولما عدَّد النبي صلى الله عليه وسلم الكبائر، قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين- وكان متكئًا فجلس- فقال: ألا وقول الزور ألا وقول الزور، قال الراوي: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت أو حتى ظننا أنه لا يسكت».
ويقولون في شاهد الزور: يا شاهد الزور أنت شر منظور، ضلَّلتَ القُضاة، وحلفت كاذبًا بالله.
ومن العجيب في شاهد الزور أنه أول ما يسقط من نظر الناس يسقط من نظر مَنْ شهد لصالحه، فرغم أنه شَهِد لصالحك، ورفع رأسك على خَصْمك لَكِن داستْ قدمك على كرامته وحقَّرته، ولو تعرَّض للشهادة في قضية أخرى فأنت أول مَنْ تفضحه بأنه شهد زورًا لصالحك.
ثم يقول سبحانه: {حُنَفَاءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء }.
اكتفتْ الآية بذكر صفتين فقط من صفات كثيرة على وجه الإجمال، وهما حنفاء لله، غير مشركين به، وحنفاء: جمع حنيف، مأخوذة من حنيف الرِّجل يعني: تقوُّسها وعدم استقامتها، فيقال: فيه حَنَف أي: ميْل عن الاستقامة، وليس الوصف هنا بأنهم مُعْوجون، إنما المراد أن الاعوجاج عن الاعوجاج استقامة.
لذلك وُصِف إبراهيم- عليه السلام- بأنه {كَانَ حَنِيفًا } [آل عمران: 67] يعني: مائلًا عن عبادة الأصنام.
وقلنا: إن السماء لا تتدخَّل برسالة جديدة إلا حين يَعمُّ الفسادُ القومَ، ويستشري بينهم الضلال، وتنعدم أسباب الهداية، حيث لا واعظَ للإنسان لا من نفسه وضميره، ولا من دينه، ولا من مجتمعه وبيئته؛ ذلك لأن في النفس البشرية مناعةً للحق طبيعية، لَكِن تطمسها الشهوات، فإذا عُدِم هذا الواعظ وهذه المناعة في المجتمع تدخَّلَتْ السماء بنبي جديد، ورسالة جديدة، وإنذار جديد؛ لأن الفساد عَمَّ الجميع، ولم يَعُدْ أحد يعِظُ الآخر ويهديه.
وهذا المعنى الذي قال الله فيه: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79]
ومن هنا شهد الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنها خير أمة أُخرِجَتْ للناس؛ لأن المناعة للحق فيها قائمة، ولها واعظ من نفسها يأمر بالخير، ويأخذ على يد المنحرف حتى يستقيم؛ لذلك قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة».
والمعنى: الخير فِيَّ حصرًا وفي أمتي نَثْرًا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم جمع خصال الخير كله، وخَصه الله بالكمال، لَكِن مَنْ يُطيق الكمال المحمدي من أمته؟ لذلك نثر الله خصال الخير في جميع أمة محمد، فأخذ كلّ واحد منهم صفةً من صفاته، فكماله صلى الله عليه وسلم منثور في أمته: هذا كريم، وهذا شجاع، وهذا حليم.. إلخ.
ولما كان لأمة محمد هذا الدور كان هو خاتم الأنبياء؛ لأن أمته ستؤدي رسالته من بعده، فلا حاجة- إذن- لتدخل السماء برسالة جديدة إلى أن تقوم الساعة.
إذن نقول: الرسل لا تأتي إلا عند الاعوجاج، يأتون هم لِيُقوِّموا هذا الاعوجاج، ويميلون عنه إلى الاستقامة، هذا معنى الحنيف أو {حُنَفَاءَ للَّهِ } [الحج: 31].
وهذه الصفة هي مقياس الاستقامة على أوامر الله لا على أوامر البشر، فنحن لا نضع لأنفسنا أسبابَ الكمال ثم نقول: ينبغي أن يكون كذا وكذا، لا إنما الذي يضع أسباب الكمال للمخلوق هو الخالق.
والحق- سبحانه وتعالى- ليس مراده من الفعل أنْ يُفعل لذاته ولمجرد الفعل، إنما مراده من الفعل أنْ يُفعل لأنه أمر به، وقد أوضحنا هذه المسألة بالكافر الذي يفعل الخير وينفع الناس والمجتمع، لَكِن ليس من منطلق الدين وأمر الله، إنما من منطلق الإنسانية والمكانة الاجتماعية والمهابة والمنزلة بين الناس، ومثل هذا لا يجحفه الله حَقه، ولا يبخسه ثواب عمله، يعطيه لَكِن في الدنيا عملًا بقول الله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].
لَكِن لا حَظَّ لهؤلاء في ثواب الآخرة؛ لأنهم عملوا للمجتمع وللناس وللمنزلة، وقد أخذوا المقابل في الدنيا شُهْرة وصيتًا ذائعًا، ومكانة وتخليدًا.
وفي الحديث القدسي يقول الحق سبحانه لهم: «لقد فعلْتَ ليُقال وقد قيل» وانتهت المسألة.
والحق- تبارك وتعالى- ضرب لنا عدة أمثلة لهؤلاء، فقال: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَاءً حتى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب } [النور: 39].
فعمل الكافر كالسراب يتراءى له من بعيد، يظن من ورائه الخير، وهو ليس كذلك، حتى إذا ما عاين الأمر لم يجد شيئًا، وفُوجِئ بوجود إله عادل لم يكُنْ في باله يوم عمل ما عمل.
وفي آية أخرى يقول سبحانه: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَا كَسَبُواْ على شَيْءٍ } [إبراهيم: 18].
وقال: {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَا كَسَبُواْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } [البقرة: 264].
وهل ينبت المطر شيئًا إذا نزل على الحجر الصَّلد الأملس؟ هكذا عمل الكافر، فمن أراد ثواب الآخرة فليحقق معنى {حُنَفَاءَ للَّهِ } [الحج: 31] ويعمل من منطلق أن الله أمر.
إذن: العمل لا يُفعَل؛ لأنه حسن في ذاته، إنما لأن الله أمرك به، بدليل أن الشارع سيأمرك بأمور لا تجد فيها حُسْنًا، ومع ذلك عليك أنْ تلتزم بها لتحقق الانضباط الذي أراده منك الشارع الحكيم، وبعد ذلك سينكشف لك وجه الحُسْن في هذا العمل، وتعلم الحكمة منه.
خذ مثلًا موقف الإسلام من اليتيم، وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رعايته وإكرامه وكفالته حتى أنه قال: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى» فكافل اليتيم قرين لرسول الله في الجنة.
ففي هذا الموقف حِكَم كثيرة، قد لا يعلمها كثير من الناس؛ لأن اليتيم فقد أباه وهو صغير، ونظر فلم يَجِدْ له أبًا، في حين يتمتع رفاقه بأحضان آبائهم، فإذا لم يجد هذا الصغير حنانًا من كل الناس كأنهم آباؤه لتربّي عنده شعور بالسُّخْط على الله والاعتراض على القدر الذي حرمه دون غيره من حنان الأب ورعايته.
لذلك يريد الإسلام أن ينشأ اليتيم نشأة سويّة في المجتمع، لا يسخط على الله، ولا يسخط على الناس؛ لأنهم جميعًا عاملوه كأنه ولد لهم.
وهناك ملحظ آخر: حين ترى مكانة اليتيم، وكيف يرعاه المجتمع وينهض به يطمئن قلبك إنْ فاجأك الموت وأولادك صغار، هذه مناعات يجعلها الإسلام في المجتمع: مناعة في نفس اليتيم، ومناعة فيمَنْ يرعاه ويكفله.
وكفالة اليتيم وإكرامه لابد أنْ تتم في إطار {حُنَفَاءَ للَّهِ } [الحج: 31] فيكون عملك لله خالصًا، دون نظر إلى شيء آخر من متاع الدنيا، كالذي يسعى للوصاية على اليتيم لينتفع بماله، أو أن له مطمعًا في أمه.. إلخ. فهذا عمله كالذي قُلْنا: كسراب بقيعة أو كرماد اشتدت به الريح أو كحجر أملس صَلْد لا ينبت شيئًا.
فإنْ حاول الإنسان إخلاص النية لله في مثل هذا العمل فإنه لا يأمن أنْ يخالطه شيء، كما جاء في الحديث الشريف: «اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك».
الصفة الثانية التي وصف الله بها عباده المؤمنين: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } [الحج: 31] فالشرك أمر عظيم؛ لأن الحق- تبارك وتعالى- كما قال في الحديث القدسي- أغنى الشركاء عن الشرك، فكيف تلجأ إلى غير الله والله موجود؟
لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَنْ عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشِرْكه».
ويعطينا الحق سبحانه بعدها صورة توضيحية لعاقبة الشرك: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج: 31].
خرَّ: يعني سقط من السماء لا يُمسكه شيء، ومنه قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } [النحل: 26].
وفي الإنسان جمادية؛ لأن قانون الجاذبية يتحكم فيه، فإنْ صَعِد إلى أعلى لابد أنْ يعود إلى الأرض بفعل هذه الجاذبية، لا يملك أنْ يُمسِك نفسه مُعلَّقًا في الهواء، فهذا أمر لا يملكه وخارج عن استطاعته، وفي الإنسان نباتية تتمثل في النمو، وفيه حيوانية تتمثل في الغرائز، وفيه إنسانية تتمثل في العقل والتفكير والاختيار بين البدائل، وبهذه كُرِّم عن سائر الأجناس.
وتلحظ أن خرَّ ترتبط بارتفاع بعيد {خَرَّ مِنَ السماء } [الحج: 31] بحيث لا تستطيع قوة أنْ تحميه، أو تمنعه لا بذاته ولا بغيره، وقبل أنْ يصل إلى الأرض تتخطفه الطير، فإنْ لم تتخطفه تهوي به الريح في مكان بعيد وتتلاعب به، فهو هالك هالك لا محالةَ، ولو كانت واحدة من هذه الثلاث لكانت كافية.
وعلى العاقل أنْ يتأمل مغزى هذا التصوير القرآني فيحذر هذا المصير، فهذه حال مَنْ أشرك بالله، فإنْ أخذتَ الصورة على أنها تشبيه حالة بحالة، فها هي الصورة أمامك واضحة، وإنْ أردتَ تفسيرًا آخر يُوضِّح أجزاءها: فالسماء هي الإسلام، والطير هي الشهوات، والريح هي ريح الشيطان، يتلاعب به هنا وهناك. فأيُّ ضياع بعد هذا؟ ومَنْ ذا الذي ينقذه من هذا المصير؟
ثم يقول سبحانه: {ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله }.
{ذلك } [الحج: 32] كما قلنا في السابقة: إشارة إلى الكلام السابق الذي أصبح واضحًا معروفًا، ونستأنف بعدها كلامًا جديدًا تَنبَّه له.
{وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله } [الحج: 32] الشعائر: جمع شعيرة، وهي المعالم التي جعلها الله لعباده لينالوا ثوابه بتعظيمها، فالإحرام شعيرة، والتكبير شعيرة، والطواف شعيرة، والسَّعْي شعيرة، ورمْي الجمار شعيرة.. إلخ. وهذه أمور عظّمها الله، وأمرنا بتعظيمها.
وتعظيم الشيء أبلغ وأشمل من فِعْله، أو أدائه، أو عمله، عَظَّم الشعائر يعني: أدَّاها بحبٍّ وعشْق وإخلاص، وجاء بها على الوجه الأكمل، وربما زاد على ما طُلِبَ منه.
ومثالنا في ذلك: خليل الله إبراهيم، عندما أمره الله أنْ يرفع قواعد البيت: كان يكفيه أنْ يبني على قَدْر ما تطوله يده، وبذلك يكون قد أدّى ما أُمِر به، لَكِنه عشق هذا التكليف وأحبَّه فاحتال للأمر ووضع حجرًا على حجر ليقف عليه، ويرفع البناء بقدر ما ارتفع إليه.
فمحبة أمر الله مَرْقي من مراقي الإيمان، يجب أن نسموَ إليه، حتى في العمل الدنيوي: هَبْ أنك نُقِلْتَ إلى ديوان جديد، ووصل إلى عِلْمك أن مدير هذا الديوان رجل جادّ وصعب، ويُحاسب على كل صغيرة وكبيرة، فيمنع التأخير أو التسيّب أثناء الدوام الرسمي، فإذا بك تلتزم بهذه التعليمات حرفيًّا، بل وتزيد عليها ليس حبًا في العمل، ولَكِن حتى لا تُسئَل أمام هذا المدير في يوم من الأيام.
إذن: الهدف أنْ نؤدي التكاليف بحُبٍّ وعِشْق يُوصِّلنا إلى حب الله عز وجل؛ لذلك نجد من أهل المعرفة مَنْ يقول: رُبَّ معصية أورثتْ ذلًا وانكسارًا خَيْر من طاعة أورثت عِزًا واستكبارًا.
فالمهم أن نصل إلى الله، أن نخضع لله، أنْ نذِلّ لعزته وجلاله، والمعصية التي تُوصِّلك إلى هذه الغاية خير من الطاعة التي تُسلِمك للغرور والاستكبار.
هذه المحبة للتكاليف، وهذا العشق عبَّر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: «وجُعلَتْ قُرَّة عيني في الصلاة» لذلك نَعَي القران على أولئك الذين {إِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى يُرَاءُونَ الناس وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلًا } [النساء: 142].
وابنته فاطمة- رضي الله عنها- كانت تجلو الدرهم وتلمعه، فلما سألها رسول الله عما تفعل، قالت: لأنني نويتُ أنْ أتصدَّق به، وأعلم أنه يقع في يد الله قبل أنْ يقع في يد الفقير. هذا هو التعظيم لشعائر الله والقيام بها عن رغبة وحب.
وفي عصور الإسلام الأولى كان الناس يتفاضلون بأسبقهم إلى صلاة الجماعة حين يسمع النداء، وبآخرهم خروجًا من المسجد بعد أداء الصلاة، ولك أن تقيس حال هؤلاء بحالنا اليوم. هؤلاء قوم عظَّموا شعائر الله فلم يُقدِّموا عليها شيئًا.
وقد بلغ حُبُّ التكاليف وتعظيم شعائر الله بأحد العارفين إلى أنْ قال: لقد أصبحتُ أخشى ألا يثيبني الله على طاعته، فسألوه: ولماذا؟ قال: لأنني أصبحتُ أشتهيها يعني: أصبحتْ شهوة عندي، فكيف يُثاب- يعني- على شهوة عندي؟!
لذلك أهل العزم وأهل المعرفة عن الله إذا ورد الأمر من الله وثبت أخذوه على الرَّحْب والسِّعَة دون جدال ولا مناقشة، وكيف يناقشون أمر الله وهم يُعظِّمونه؟ ومن هنا نقول للذين يناقشون في أمور فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل تعدُّد زوجاته مثلًا ويعترضون، بل ومنهم مَنْ يتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يليق.
نقول لهم: ما دُمْتُم آمنتم بأنه رسول الله، فكيف تضعون له موازين الكمال من عند أنفسكم. وتقولون: كان ينبغي أنْ يفعل كذا، ولا يفعل كذا؟ وهل عندكم من الكمال ما تقيسون به فِعْل رسول الله؟ المفروض أن الكمال منه صلى الله عليه وسلم ومن ناحيته، لا من ناحيتكم.
ثم يقول سبحانه: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} [الحج: 32] ليست من تقوى الجوارح، بل تقوى قلب لا تقوى قالب، فالقلب هو محلُّ نظر الله إليك، ومحلُّ قياس تعظيمك لشعائر الله.
وسبق أنْ ذكرنا أن الله تعالى لا يريد أنْ يُخضِع قوالبنا، إنما يريد أنْ يُخضع قلوبنا، ولو أراد سبحانه أنْ تخضع القوالب لخصعتْ له راغمة، كما جاء في قوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السماء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3- 4].
وأنت تستطيع أنْ تُرغِم مَنْ هو أضعف منك على أيِّ شيء يكرهه، إنْ شئت سجد لك، لَكِن لا تملك أنْ تجعل في قلبه حبًا أو احترامًا لك، لماذا؟ لأنك تجبر القالب، أمّا القلب فلا سلطةَ لك عليه بحال.
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)}.
يعني: ما دامت هذه المسائل من شعائر الله ومن تقوى القلوب فاعملوها وعظِّموها؛ لأن لكم فيها منافع عرفتها أو لم تعرفها، وربما تعرف بعضها ولا تعرف الباقي؛ لأنه مستور عنك ولو أنك لا تعلم قيمة الجزاء على هذه الشعائر، فقيمة الجزاء على العمل بحسب أنفاس الإخلاص في هذا العمل.
ومعنى {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [الحج: 33] ما دام الحق- سبحانه وتعالى- ذَيَّل الآية بقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق } [الحج: 33].
إذن: فالمراد هنا شعيرة الذَّبْح، ولا يخفى ما فيها من منافع حيث ننتفع بصوفها ووبرها ولبنها ولحمها، ونتخذها زينة وركوبة.
كل هذا {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [الحج: 33] يعني: زمن معلوم، وهو حين تقول وتنوي: هذه هدية للحرم، ساعة تعقد هذه النية فليس لك الانتفاع بشيء منها، لا أنت ولا غيرك؛ لذلك يُميِّزونها بعلامة حتى إنْ ضلت من صاحبها يعرفون أنها مُهْداة لبيت الله، فلا يأخذها أحد.
وما دامت هذه منافع إلى أجل مسمى، فلابد أنها المنافع الدنيوية، أما المنافع الآخروية فسوف تجدها فيما بعد في الآخرة.
ثم يقول سبحانه: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق} [الحج: 33] أي: بعد هذا الأجل المسمى ينتهي بها المطاف عند الحرم حيث تُذبَح هناك.
وقد كان للعلماء كلامٌ حول هذه الآية: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق} [الحج: 33] حيث قالوا: محل الذَّبْح في مِنَى، وليس في مكة، والآية تقول، محلها البيت العتيق.
نقول: الأصل كما جاء في الآية أن الذبح في مكة وفي الحرم، إلا أنهم لما استقذروا الذَّبْح في الحرم بسبب ما يُخلفه من قاذورات ودماء وخلافه نتيجة هذه العملية، فرُؤي أن يجعلوا الذبح بعيدًا عن الحرم حتى يظل نظيفًا، وهذا لا يمنع الأصل، وهو أنْ يكون الذَّبْح في الحرم، كما جاء في آية أخرى: {هديا بَالِغَ الكعبة } [المائدة: 95] وفي الحديث الشريف: «مكّةُ كلُّها مَنْحرٌ». اهـ.